فصل: مسألة: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإذا جلس فيها للتشهد يكون كجلوسه بين السجدتين‏]‏ وجملته أنه إذا صلى ركعتين جلس للتشهد‏,‏ وهذا الجلوس والتشهد فيه مشروعان بلا خلاف وقد نقله الخلف عن السلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم- نقلا متواترا‏,‏ والأمة تفعله في صلاتها فإن كانت الصلاة مغربا أو رباعية فهما واجبان فيها على إحدى الروايتين وهو مذهب الليث‏,‏ وإسحاق والأخرى‏:‏ ليسا بواجبين وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنهما يسقطان بالسهو‏,‏ فأشبها السنن ولنا ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- فعله وداوم على فعله وأمر به‏)‏ في حديث ابن عباس‏,‏ فقال‏:‏ ‏"‏ قولوا‏:‏ التحيات لله ‏"‏ وسجد للسهو حين نسيه وقد قال‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتمونى أصلي‏)‏ وإنما سقط بالسهو إلى بدل فأشبه جبرانات الحج تجبر بالدم بخلاف السنن‏,‏ ولأنه أحد التشهدين فكان واجبا كالآخر وصفة الجلوس لهذا التشهد كصفة الجلوس بين السجدتين يكون مفترشا كما وصفنا وسواء كان آخر صلاته أو لم يكن وبهذا قال الثوري وإسحاق‏,‏ وأصحاب الرأي وقال مالك‏:‏ يكون متوركا على كل حال لما روى ابن مسعود ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركا‏)‏ وقال الشافعي‏:‏ إن كان متوسطا كقولنا وإن كان آخر صلاته كقول مالك ولنا‏,‏ حديث أبي حميد ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- جلس - يعنى للتشهد - فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته‏)‏ وقال وائل بن حجر‏:‏ قلت‏:‏ لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏فلما جلس - يعنى للتشهد - افترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى‏,‏ ونصب رجله اليمنى‏)‏ وهذان حديثان صحيحان حسنان يتعين الأخذ بهما وتقديمهما على حديث ابن مسعود لصحتهما وكثرة رواتهما‏,‏ فإن أبا حميد ذكر حديثه في عشرة من الصحابة فصدقوه وهما متأخران عن ابن مسعود وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد بين أبو حميد في حديثه الفرق بين التشهدين‏,‏ فتكون زيادة والأخذ بالزيادة واجب‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ثم يبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى ويده اليمنى على فخذه اليمنى‏,‏ ويحلق الإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة‏]‏ وجملته أنه يستحب للمصلى إذا جلس للتشهد وضع اليد اليسرى على فخذ اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلا بجميع أطراف أصابعها القبلة‏,‏ ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى يقبض منها الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى‏,‏ ويشير بالسبابة وهي الإصبع التي تلى الإبهام لما روى وائل بن حجر ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم عقد من أصابعه الخنصر والتى تليها‏,‏ وحلق حلقة بإصبعه الوسطى والإبهام ورفع السبابة مشيرا بها‏)‏ قال أبو الحسن الآمدي وقد روي عن أبي عبد الله أنه يجمع أصابعه الثلاث‏,‏ ويعقد الإبهام كعقد الخمسين لما روى ابن عمر ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة‏)‏ رواه مسلم وقال الآمدي‏:‏ وروى أنه يبسط الخنصر والبنصر ليكون مستقبلا بهما القبلة والأول أولى اقتداء بالنبى - صلى الله عليه وسلم- ويشير بالسبابة‏,‏ يرفعها عند ذكر الله تعالى في تشهده لما روينا ولا يحركها لما روى عبد الله بن الزبير ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يشير بإصبعه ولا يحركها‏)‏ رواه أبو داود وفي لفظ‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا قعد - يدعو - وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى‏,‏ وأشار بإصبعه ‏)‏‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏(‏ويتشهد فيقول‏:‏ ‏(‏التحيات لله والصلوات والطيبات‏,‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله‏,‏ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وهو التشهد الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏)‏ هذا التشهد هو المختار عند إمامنا -رحمه الله- وعليه أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين قاله الترمذي‏,‏ وبه يقول الثوري وإسحاق وأبو ثور‏,‏ وأصحاب الرأي وكثير من أهل المشرق وقال مالك‏:‏ أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ التحيات لله الزاكيات لله‏,‏ الصلوات لله ‏"‏ وسائره كتشهد ابن مسعود لأن عمر قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكروه‏,‏ فكان إجماعا وقال الشافعي‏:‏ أفضل التشهد‏:‏ ما روى ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول‏:‏ قولوا‏:‏ التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله‏,‏ سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله‏,‏ وأشهد أن محمدا رسول الله‏)‏ أخرجه مسلم والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏,‏ إلا أن في رواية مسلم ‏"‏ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ‏"‏ ‏.‏

ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏(‏علمنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- التشهد - كفى بين كفيه - كما يعلمنى السورة من القرآن‏:‏ التحيات لله والصلوات والطيبات‏,‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله‏,‏ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل‏:‏ التحيات لله وفيه‏:‏ فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض وفيه‏:‏ فليتخير من المسألة ما شاء‏)‏ متفق عليه قال الترمذي‏:‏ حديث ابن مسعود قد روى من غير وجه وهو أصح حديث روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في التشهد وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- معه ابن عمر‏,‏ وجابر وأبو موسى وعائشة وعليه أكثر أهل العلم‏,‏ فتعين الأخذ به وتقديمه فأما حديث عمر فلم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما هو من قوله وأكثر أهل العلم على خلافه فكيف يكون إجماعا‏؟‏ على أنه ليس الخلاف في إجزائه في الصلاة‏,‏ إنما الخلاف في الأولى والأحسن والأحسن تشهد النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي علمه أصحابه وأخذوا به وأما حديث ابن عباس فانفرد به واختلف عنه في بعض ألفاظه‏,‏ ففي رواية مسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ‏"‏ كرواية ابن مسعود ثم رواية ابن مسعود أصح إسنادا وأكثر رواة وقد اتفق على روايته جماعة من الصحابة فيكون أولى‏,‏ ثم هو متضمن للزيادة وفيه العطف بواو العطف وهو أشهر في كلام العرب‏,‏ وفيه السلام بالألف واللام وهما للاستغراق وقال عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه‏,‏ قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسعود ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- علمه التشهد في الصلاة قال‏:‏ وكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن‏)‏ الواو والألف وهذا يدل على ضبطه فكان أولى‏.‏

فصل

وبأى تشهد تشهد مما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- جاز نص عليه أحمد فقال‏:‏ تشهد عبد الله أعجب إلي‏,‏ وإن تشهد بغيره فهو جائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما علمه الصحابة مختلفا دل على جواز الجميع كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف قال القاضي‏:‏ وهذا يدل على أنه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهدات المروية صح تشهده فعلى هذا يجوز أن يقال‏:‏ أقل ما يجزئ التحيات لله‏,‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏,‏ أو أن محمدا رسول الله وقد قال أحمد في رواية أبي داود‏:‏ إذا قال‏:‏ ‏"‏ وأن محمدا عبده ورسوله ‏"‏ ولم يذكر ‏"‏ وأشهد ‏"‏ أرجو أن يجزئه قال ابن حامد‏:‏ رأيت بعض أصحابنا يقول‏:‏ لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصلاة لقول الأسود‏:‏ فكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن والأول أصح لما ذكرنا وقول الأسود يدل على أن الأولى والأحسن الإتيان بلفظه وحروفه وهو الذي ذكرنا أنه المختار‏,‏ وعلى أن عبد الله كان يرخص في إبدال لفظات من القرآن فالتشهد أولى فقد روى عنه أن إنسانا كان يقرأ عليه‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم ‏.‏ طعام الأثيم‏}‏ فيقول‏:‏ طعام اليتيم فقال له عبد الله‏:‏ قل طعام الفاجر فأما ما اجتمعت عليه التشهدات كلها فيتعين الإتيان به‏,‏ وهذا مذهب الشافعي‏.‏

فصل

ولا تستحب الزيادة على هذا التشهد ولا تطويله وبهذا قال النخعي‏,‏ والثوري وإسحاق وعن الشعبي أنه لم ير بأسا أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم- فيه وكذلك قال الشافعي وعن عمر أنه كان إذا تشهد قال‏:‏ بسم الله خير الأسماء وعن ابن عمر‏,‏ أنه كان يسمى في أوله وقال زدت فيه‏:‏ وحده لا شريك له وأباح الدعاء فيه بما بدا له وقال أيوب ويحيى بن سعيد‏,‏ وهشام بقول عمر في التسمية وقد روى جابر قال ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن‏:‏ بسم الله التحيات لله وذكر التشهد كتشهد ابن مسعود أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار‏)‏ رواه النسائي وابن ماجه وقال مالك‏:‏ ذلك واسع وسمع ابن عباس رجلا يقول‏:‏ ‏"‏ بسم الله ‏"‏ فانتهره وبه قال مالك‏,‏ وأهل المدينة وابن المنذر والشافعي وهو الصحيح لما روى ابن مسعود ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم‏)‏ رواه أبو داود والرضف‏:‏ هي الحجارة المحماة يعنى لما يخففه وهذا يدل على أنه لم يطوله‏,‏ ولم يزد على التشهد شيئا وروي عن مسروق قال‏:‏ كنا إذا جلسنا مع أبي بكر كأنه على الرضف حتى يقوم رواه الإمام أحمد وقال حنبل‏:‏ رأيت أبا عبد الله يصلي فإذا جلس في الجلسة بعد الركعتين أخف الجلوس‏,‏ ثم يقوم كأنه على الرضف وإنما قصد الاقتداء بالنبى - صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ولأن الصحيح من التشهدات ليس فيه تسمية ولا شيء من هذه الزيادات فيقتصر عليها‏,‏ ولم تصح التسمية عند أصحاب الحديث ولا غيرها مما وقع الخلاف فيه وإن فعله جاز لأنه ذكر‏.‏

فصل

وإذا أدرك بعض الصلاة مع الإمام‏,‏ فجلس الإمام في آخر صلاته لم يزد المأموم على التشهد الأول بل يكرره نص عليه أحمد فيمن أدرك مع الإمام ركعة‏,‏ قال‏:‏ يكرر التشهد ولا يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا يدعو بشيء مما يدعى به في التشهد الأخير لأن ذلك إنما يكون في التشهد الذي يسلم عقيبه وليس هذا كذلك‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ثم ينهض مكبرا كنهوضه من السجود‏]‏ يعنى إذا فرغ من التشهد الأول نهض قائما على صدر قدميه‏,‏ معتمدا على ركبتيه على ما ذكرناه في نهوضه من السجود في الركعة الأولى ولا يقدم إحدى رجليه عند النهوض كذلك قال ابن عباس وكرهه إسحاق وروي عن ابن عباس أن ذلك يقطع الصلاة ورخص فيه مجاهد‏,‏ وإسحاق للشيخ ولنا أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد كرهه ابن عباس ويمكن الشيخ أن يعتمد على يديه‏,‏ فيستغنى عنه ولا تبطل الصلاة به لأنه ليس بعمل كثير‏,‏ ولا وجد فيه ما يقتضي البطلان‏.‏

فصل

ثم يصلي الثالثة والرابعة كالثانية إلا أنه‏:‏ لا يقرأ فيهما شيئا بعد الفاتحة ولا يجهر فيهما في صلاة الجهر وسيأتى بيان ذلك‏,‏ -إن شاء الله تعالى-‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإذا جلس للتشهد الأخير تورك فنصب رجله اليمنى وجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى‏,‏ ويجعل أليتيه على الأرض‏]‏ السنة عند إمامنا -رحمه الله- التورك في التشهد الثاني وإليه ذهب مالك‏,‏ والشافعي وقال الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ يجلس مفترشا كجلوسه في الأول لما ذكرنا من حديث وائل بن حجر وأبي حميد‏,‏ في صفة جلوس النبي - صلى الله عليه وسلم- ولنا قول أبي حميد‏:‏ حتى ‏(‏إذا كانت الركعة التي يقضى فيها صلاته أخر رجله اليسرى وجلس متوركا على شقه الأيسر‏)‏ وهذا بيان الفرق بين التشهدين وزيادة يجب الأخذ بها والمصير إليها‏,‏ والذي احتجوا به في التشهد الأول لا نزاع بيننا فيه وأبو حميد - راوى حديثهم - بين في حديثه أن افتراشه كان في التشهد الأول‏,‏ وأنه تورك في الثاني فيجب المصير إلى قوله وبيانه فأما صفة التورك فقال الخرقي‏:‏ ينصب رجله اليمنى‏,‏ ويجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى ويجعل أليتيه على الأرض وذكر القاضي مثل ذلك لما روي عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى‏)‏ رواه مسلم‏,‏ وأبو داود وفي بعض ألفاظ حديث أبي حميد قال‏:‏ ‏(‏جلس النبي - صلى الله عليه وسلم- على أليتيه وجعل بطن قدمه عند مأبض اليمنى‏,‏ ونصب قدمه اليمنى‏)‏ وروى الأثرم في صفته قال‏:‏ رأيت أبا عبد الله يتورك في الرابعة في التشهد فيدخل رجله اليسرى‏,‏ يخرجها من تحت ساقه الأيمن ولا يقعد على شيء منها وينصب اليمنى‏,‏ ويفتح أصابعه وينحى عجزه كله ويستقبل بأصابعه اليمنى القبلة‏,‏ وركبته اليمنى على الأرض ملزقة وهكذا ذكر أبو الخطاب وأصحاب الشافعي وإن أبا حميد‏,‏ قال في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة‏)‏ رواه أبو داود وأيهما فعل فحسن‏.‏

فصل

وهذا التشهد والجلوس له من أركان الصلاة‏,‏ وممن قال بوجوبه عمر وابنه وأبو مسعود البدرى والحسن‏,‏ والشافعي ولم يوجبه مالك ولا أبو حنيفة إلا أن أبا حنيفة أوجب الجلوس قدر التشهد وتعلقا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يعلمه الأعرابي‏,‏ فدل على أنه غير واجب ولنا ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر به فقال‏:‏ قولوا‏:‏ التحيات لله‏)‏ وأمره يقتضي الوجوب وفعله وداوم عليه‏,‏ وقد روي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ‏(‏كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد‏:‏ السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل‏,‏ السلام على ميكائيل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- لا تقولوا‏:‏ السلام على الله ولكن قولوا‏:‏ التحيات لله إلى آخره‏)‏ وهذا يدل أنه فرض بعد أن لم يكن مفروضا وحديث الأعرابي يحتمل أنه كان قبل أن يفرض التشهد‏,‏ ويحتمل أنه ترك تعليمه لأنه لم يره أساء في تركه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما‏]‏ وجملته أن جميع جلسات الصلاة لا يتورك فيها إلا في تشهد ثان وقال الشافعي‏:‏ يسن التورك في كل تشهد يسلم فيه وإن لم يكن ثانيا كتشهد الصبح والجمعة وصلاة التطوع لأنه تشهد يسن تطويله‏,‏ فسن فيه التورك كالثانى ولنا حديث وائل بن حجر ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما جلس للتشهد افترش رجله اليسرى ونصب رجله اليمنى ولم يفرق بين ما يسلم فيه وما لا يسلم‏)‏ وقالت عائشة‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول في كل ركعتين التحية‏,‏ وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى‏)‏ رواه مسلم وهذان يقضيان على كل تشهد بالافتراش إلا ما خرج منه لحديث أبي حميد في التشهد الثاني فيبقى فيما عداه على قضية الأصل‏,‏ ولأن هذا ليس بتشهد ثان فلا يتورك فيه كالأول وهذا لأن التشهد الثاني‏,‏ إنما تورك فيه للفرق بين التشهدين وما ليس فيه إلا تشهد واحد لا اشتباه فيه فلا حاجة إلى الفرق‏,‏ وما ذكروه من المعنى إن صح فيضم إليه هذا المعنى الذي ذكرناه ونعلل الحكم بهما والحكم إذا علل بعلتين لم يجز تعديه لتعدى أحدهما دون الآخر والله أعلم‏.‏

فصل

قيل لأبي عبد الله‏:‏ فما تقول في تشهد سجود السهو‏؟‏ فقال ‏"‏ يتورك فيه أيضا‏,‏ هو من بقية الصلاة يعنى إذا كان من السجود في صلاة رباعية لأن تشهدها يتورك فيه وهذا تابع له وقال القاضي‏:‏ يتورك في كل تشهد لسجود السهو بعد السلام سواء كانت الصلاة رباعية أو ركعتين لأنه تشهد ثان في الصلاة‏,‏ ويحتاج إلى الفرق بينه وبين تشهد صلب الصلاة وقال الأثرم‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ الرجل يجيء فيدرك مع الإمام ركعة فيجلس الإمام في الرابعة أيتورك معه الرجل الذي جاء في هذه الجلسة‏؟‏ فقال‏:‏ إن شاء تورك قلت‏:‏ فإذا قام يقضي‏,‏ يجلس في الرابعة هو فينبغي له أن يتورك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم يتورك‏,‏ هذا لأنها هي الرابعة له نعم يتورك ويطيل الجلوس في التشهد الأخير قال القاضي‏:‏ قوله‏:‏ إن شاء تورك على سبيل الجواز لأنه مسنون وقد صرح في رواية مهنا فيمن أدرك من صلاة الظهر ركعتين‏,‏ لا يتورك إلا في الأخيرتين ويحتمل أن يكون هذان روايتين‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ويتشهد بالتشهد الأول ويصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم- فيقول‏:‏ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم‏,‏ إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم‏,‏ إنك حميد مجيد‏]‏ وجملته أنه إذا جلس في آخر صلاته فإنه يتشهد بالتشهد الذي ذكرناه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم- كما ذكر الخرقي وهي واجبة في صحيح المذهب‏,‏ وهو قول الشافعي وإسحاق وعن أحمد أنها غير واجبة قال المروذي‏:‏ قيل لأبي عبد الله إن ابن راهويه يقول‏:‏ لو أن رجلا ترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- في التشهد بطلت صلاته قال‏:‏ ما أجترئ أن أقول هذا وقال في موضع‏:‏ هذا شذوذ وهذا يدل على أنه لم يوجبها وهذا قول مالك والثوري‏,‏ وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم قال ابن المنذر‏:‏ هو قول جل أهل العلم إلا الشافعي وكان إسحاق يقول‏:‏ لا يجزئه إذا ترك ذلك عامدا قال ابن المنذر‏:‏ وبالقول الأول أقول لأننى لا أجد الدلالة موجودة في إيجاب الإعادة عليه واحتجوا بحديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- علمه التشهد ثم قال‏:‏ إذا قلت هذا - أو قضيت هذا - فقد تمت صلاتك‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ وقد قضيت صلاتك‏,‏ فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد ‏"‏ رواه أبو داود وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع‏)‏ رواه مسلم أمرنا بالاستعاذة عقيب التشهد من غير فصل ولأن الصحابة كانوا يقولون في التشهد قولا فنقلهم عنه النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى التشهد وحده‏,‏ فدل على أنه لا يجب غيره ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بإيجابه وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- وجوبه فإن أبا زرعة الدمشقى نقل عن أحمد‏,‏ أنه قال‏:‏ كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة واجبة فظاهر هذا أنه رجع عن قوله الأول إلى هذا لما روى كعب بن عجرة‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏إن النبي - صلى الله عليه وسلم- خرج علينا فقلنا‏:‏ يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلى عليك‏؟‏ قال‏:‏ قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم‏,‏ إنك حميد مجيد وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم‏,‏ إنك حميد مجيد‏)‏ متفق عليه وروى الأثرم عن فضالة بن عبيد ‏(‏سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجلا يدعو في صلاته لم يمجد ربه ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ عجل هذا ثم دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه ثم ليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم ليدع بعد بما شاء‏)‏ ولأن الصلاة عبادة شرط فيها ذكر الله تعالى بالشهادة‏,‏ فشرط ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم- كالأذان فأما حديث ابن مسعود فقال الدارقطني‏:‏ الزيادة فيه من كلام ابن مسعود‏.‏

فصل

وصفة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- كما ذكر الخرقي لما روينا من حديث كعب بن عجرة‏,‏ وقد رواه النسائي كذلك إلا أنه قال‏:‏ ‏"‏ كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ‏"‏ و ‏"‏ كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ كما صليت على إبراهيم‏,‏ إنك حميد مجيد ‏"‏ و ‏"‏ كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ وهو حديث حسن صحيح وفي رواية ابن مسعود‏:‏ ‏(‏كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين‏,‏ إنك حميد مجيد‏)‏ رواه مسلم وعن أبي حميد ‏(‏‏,‏ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ قولوا‏:‏ اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم‏,‏ إنك حميد مجيد‏)‏ رواه البخاري والأولى أن يأتي بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- على الصفة التي ذكر الخرقي لأن ذلك في حديث كعب بن عجرة وهو أصح حديث روى فيها وعلى أي صفة أتى بالصلاة عليه مما ورد في الأخبار جاز‏,‏ كقولنا في التشهد وظاهره أنه إذا أخل بلفظ ساقط في بعض الأخبار جاز‏,‏ لأنه لو كان واجبا لما أغفله النبي - صلى الله عليه وسلم- قال القاضي أبو يعلى‏:‏ ظاهر كلام أحمد أن الصلاة واجبة على النبي - صلى الله عليه وسلم- حسب لقوله في خبر أبي زرعة‏:‏ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر من تركها أعاد الصلاة ولم يذكر الصلاة على آله وهذا مذهب الشافعي ولهم في وجوب الصلاة على آله وجهان وقال بعض أصحابنا‏:‏ تجب الصلاة على الوجه الذي في خبر كعب لأنه أمر به‏,‏ والأمر يقتضي الوجوب والأول أولى والنبي - صلى الله عليه وسلم- إنما أمرهم بهذا حين سألوه تعليمهم ولم يبتدئهم به‏.‏

فصل

آل النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ أتباعه على دينه‏,‏ كما قال الله تعالى ‏{‏أدخلوا آل فرعون‏}‏ يعنى أتباعه من أهل دينه وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏‏,‏ أنه سئل‏:‏ من آل محمد‏؟‏ فقال‏:‏ كل تقي‏)‏ أخرجه تمام في ‏"‏ فوائده ‏"‏ وقيل آله‏:‏ أهله الهاء منقلبة عن الهمزة كما يقال‏:‏ أرقت الماء وهرقته فلو قال‏:‏ وعلى أهل محمد‏,‏ مكان آل محمد أجزأه عند القاضي وقال‏:‏ معناهما واحد‏,‏ ولذلك لو صغر قيل‏:‏ أهيل‏:‏ قال ومعناهما جميعا أهل دينه وقال ابن حامد وأبو حفص‏:‏ لا يجزئ لما فيه من مخالفة لفظ الأثر وتغيير المعنى‏,‏ فإن الأهل إنما يعبر به عن القرابة والآل يعبر به عن الأتباع في الدين‏.‏

فصل

وأما تفسير التحيات فروى عن ابن عباس‏,‏ قال‏:‏ التحية العظمة والصلوات الصلوات الخمس والطيبات الأعمال الصالحة وقال أبو عمرو‏:‏ التحيات الملك وأنشد‏:‏

ولكل ما نال الفتى ** قد نلته إلا التحية

وقال بعض أهل اللغة‏:‏ التحية البقاء واستشهد بهذا البيت وقال ابن الأنبارى‏:‏ التحيات السلام‏,‏ والصلوات الرحمة والطيبات من الكلام‏.‏

فصل

والسنة إخفاء التشهد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يكن يجهر به إذ لو جهر به لنقل كما نقلت القراءة وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ من السنة إخفاء التشهد رواه أبو داود ولأنه ذكر غير القراءة لا ينتقل به من ركن إلى ركن‏,‏ فاستحب إخفاؤه كالتسبيح ولا نعلم في هذا خلافا‏.‏

فصل

ولا يجوز لمن قدر على العربية التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- بغيرها لما ذكرنا في التكبير فإن عجز عن العربية تشهد بلسانه‏,‏ كقولنا في التكبير ويجيء على قول القاضي أن لا يتشهد وحكمه حكم الأخرس ومن قدر على تعلم التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- لزمه ذلك لأنه من فروض الأعيان‏,‏ فلزمه كالقراءة فإن صلى قبل تعلمه مع إمكانه لم تصح صلاته وإن خاف فوات الوقت أو عجز عن تعلمه‏,‏ أتى بما يمكنه منه وأجزأه للضرورة وإن لم يحسن شيئا بالكلية سقط كله‏.‏

فصل

والسنة ترتيب التشهد‏,‏ وتقديمه على الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- فإن لم يفعل وأتى به منكسا من غير تغيير شيء من معانيه ولا إخلال بشيء من الواجب فيه‏,‏ ففيه وجهان‏:‏ أحدهما يجزئه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المقصود المعنى وقد حصل فصح كما لو رتبه والثاني لا يصح لأنه أخل بالترتيب في ذكر ورد الشرع به مرتبا‏,‏ فلم يصح كالأذان‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ويستحب أن يتعوذ من أربع فيقول‏:‏ أعوذ بالله من عذاب جهنم أعوذ بالله من عذاب القبر أعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال‏,‏ أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات‏]‏ وذلك لما روى أبو هريرة قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يدعو‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار‏,‏ ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏ متفق عليه ولمسلم‏:‏ ‏(‏إذا تشهد أحدكم فليستعذ من أربع‏)‏ وذكره‏.‏

مسألة

قال :[وإن دعا في تشهده بما ذكر في الأخبار فلا بأس ] وجملته أن الدعاء في الصلاة بما وردت به الأخبار جائز . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : إن هؤلاء يقولون : لا يدعو في المكتوبة إلا بما في القرآن . فنفض يده كالمغضب ، وقال : من يقف على هذا ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قالوا ، قلت لأبي عبد الله : إذا جلس في الرابعة يدعو بعد التشهد بما شاء ؟ قال : بما شاء لا أدري ، ولكن يدعو بما يعرف وبما جاء . فقلت : على حديث عمرو بن سعد ، قال : سمعت عبد الله ، يقول : إذا جلس أحدكم في صلاته ، وذكر التشهد ، ثم ليقل : " اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم . اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون ، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك الصالحون ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد " . رواه الأثرم . وعن عبد الله قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، قال : وعلمنا أن نقول : اللهم أصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين عليك بها ، قابليها ، وأتمها علينا ) رواه أبو داود . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه (قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ) متفق عليه . وعن أبي هريرة ، قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : ما تقول في الصلاة ؟ قال : أتشهد ، ثم أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، أما والله ما أحسن دندنتك ، ولا دندنة معاذ . فقال : حولها ندندن ). رواه أبو داود . وفي حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد ، فقال في آخره : أسأل الله الجنة ، وأعوذ بالله من النار ). وقول الخرقي : بما ذكر في الأخبار . يعني أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف ، رحمة الله عليهم ؛ فإن أحمد ذهب إلى حديث ابن مسعود في الدعاء ، وهو موقوف عليه ، وقال : يدعو بما جاء وبما يعرف . ولم يقيده بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول في سجوده : اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك . وقال : كان عبد الرحمن يقوله في سجوده . وقال : سمعت الثوري يقوله في سجوده .

فصل

ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها ، بما يشبه كلام الآدميين وأمانيهم ، مثل : اللهم ارزقني جارية حسناء ، ودارا قوراء ، وطعاما طيبا ، وبستانا أنيقا . وقال الشافعي : يدعو بما أحب ؛ لقوله عليه السلام ، في حديث ابن مسعود ، في التشهد : " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه " . متفق عليه . ولمسلم : " ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء أو ما أحب " . وفي حديث أبي هريرة (: إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع ، ثم يدعو لنفسه ما بدا له ) . ولنا قوله عليه السلام (: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) . أخرجه مسلم . وهذا من كلام الآدميين ، ولأنه كلام آدمي يخاطب بمثله ، أشبه تشميت العاطس ، ورد السلام ، والخبر محمول على أنه يتخير من الدعاء المأثور وما أشبهه .

فصل

فأما الدعاء بما يتقرب به إلى الله عز وجل مما ليس بمأثور ، ولا يقصد به ملاذ الدنيا ، فظاهر كلام الخرقي وجماعة من أصحابنا أنه لا يجوز ، ويحتمله كلام أحمد ؛ لقوله : ولكن يدعو بما جاء وبما يعرف . وحكى عنه ابن المنذر ، أنه قال : لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه ؛ من حوائج دنياه وآخرته . وهذا هو الصحيح ، إن شاء الله تعالى ؛ لظواهر الأحاديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثم ليتخير من الدعاء " ، وقوله : " ثم يدعو لنفسه بما بدا له " . وقوله : " ثم ليدع بعد بما شاء " . وروي عن أنس ، قال (جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : علمني دعاء أدعو به في صلاتي . فقال : احمدي الله عشرا ، وسبحي الله عشرا ، ثم سلي ما شئت . يقول : نعم نعم نعم ) . رواه الأثرم ، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون في صلاتهم بما لم يتعلموه ، فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل : " ما تقول في صلاتك ؟ " قال : أتشهد ، ثم أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار . فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ذلك من غير أن يكون علمه إياه ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء ) لم يعين لهم ما يدعون به ، فدل على أنه أباح لهم كل الدعاء ، إلا ما خرج منه بالدليل في الفصل الذي قبل هذا ، وقد روي عن عائشة ، أنها كانت إذا قرأت {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } . قالت : من علينا ، وقنا عذاب السموم . وعن جبير بن نفير ، أنه سمع أبا الدرداء ، وهو يقول في آخر صلاته ، وقد فرغ من التشهد : أعوذ بالله من النفاق . ولأنه دعاء يتقرب به إلى الله تعالى ، فأشبه الدعاء المأثور .

فصل

وهل يجوز أن يدعو لإنسان بعينه في صلاته ؟ على روايتين : إحداهما يجوز . قال الميموني : سمعت أبا عبد الله يقول لابن الشافعي : أنا أدعو لقوم منذ سنين في صلاتي ؛ أبوك أحدهم . وقد روي ذلك عن علي ، وأبي الدرداء ، واختاره ابن المنذر (لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، والمستضعفين من المؤمنين) ولأنه دعاء لبعض المؤمنين . فأشبه ما لو قال : " رب اغفر لي ولوالدي " . والأخرى لا يجوز . وكرهه عطاء والنخعي ؛ لشبهه بكلام الآدميين ، ولأنه دعاء لمعين ، فلم يجز ، كتشميت العاطس ، وقد دل على المنع من تشميت العاطس حديث معاوية بن الحكم السلمي .

فصل

ويستحب للمصلي نافلة إذا مرت به آية رحمة أن يسألها ، أو آية عذاب أن يستعيذ منها ؛ لما روى حذيفة ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم ، وفي سجوده : سبحان ربي الأعلى ، وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها وسأل ، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ ) رواه أبو داود . وعن عوف بن مالك ، قال (قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقام فقرأ سورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ . قال : ثم ركع بقدر قيامه ، يقول في ركوعه : سبحان ذي الجبروت والملكوت . والكبرياء والعظمة). رواه أبو داود . ولا يستحب ذلك في الفريضة ؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في فريضة ، مع كثرة من وصف قراءته فيها .

فصل

ويستحب للإمام أن يرتل القراءة والتسبيح والتشهد بقدر ما يرى أن من خلفه ممن يثقل لسانه قد أتى عليه ، وأن يتمكن من ركوعه وسجوده ، قدر ما يرى أن الكبير والصغير والثقيل قد أتى عليه . فإن خالف وأتى بقدر ما عليه ، كره وأجزأه . ولا يستحب له التطويل كثيرا ، فيشق على من خلفه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من أم الناس فليخفف ). وأما المنفرد فله الإطالة في ذلك كله ، ما لم يخرجه إلى حال يخاف السهو ، فتكره الزيادة عليه ، فقد روي عن عمار أنه صلى صلاة أوجز فيها ، فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أبادر الوسواس . ويستحب للإمام إذا عرض في الصلاة عارض لبعض المأمومين ، يقتضي خروجه ، أن يخفف ؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز ؛ كراهية أن أشق على أمه ) . رواه أبو داود .

مسألة

قال‏:‏ ثم يسلم عن يمينه فيقول‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك وجملته أنه إذا فرغ من صلاته‏,‏ وأراد الخروج منها سلم عن يمينه وعن يساره وهذا التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه وبهذا قال مالك‏,‏ والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يتعين السلام للخروج من الصلاة بل إذا خرج بما ينافى الصلاة من عمل أو حدث أو غير ذلك‏,‏ جاز إلا أن السلام مسنون وليس بواجب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يعلمه المسيء في صلاته‏,‏ ولو وجب لأمره به لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأن إحدى التسليمتين غير واجبة‏,‏ فكذلك الأخرى ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم‏)‏ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يسلم من صلاته‏,‏ ويديم ذلك ولا يخل به وقد قال‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتمونى أصلي‏)‏ ولأن الحدث ينافى الصلاة فلا يجب فيها‏,‏ وحديث الأعرابي أجبنا عنه فيما مضى‏.‏

فصل

ويشرع أن يسلم تسليمتين عن يمينه ويساره روى ذلك عن أبي بكر الصديق وعلى وعمار‏,‏ وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال نافع بن عبد الحارث وعلقمة‏,‏ وأبو عبد الرحمن السلمى وعطاء والشعبي‏,‏ والثوري والشافعي وإسحاق‏,‏ وابن المنذر وأصحاب الرأي وقال ابن عمر وأنس‏,‏ وسلمة بن الأكوع وعائشة والحسن وابن سيرين‏,‏ وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي‏:‏ يسلم تسليمة واحدة وقال عمار بن أبي عمار‏:‏ كان مسجد الأنصار يسلمون فيه تسليمتين‏,‏ وكان مسجد المهاجرين يسلمون فيه تسليمة ولما روت عائشة قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه‏)‏ وعن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلى فسلم تسليمة واحدة‏)‏ رواهما ابن ماجه ولأن التسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة فلم يشرع ما بعدها كالثانية ولنا‏,‏ ما روى ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه ويساره‏)‏ وعن جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه‏,‏ ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله‏)‏ رواهما مسلم وفي لفظ لحديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يسلم عن يمينه‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وحديث عائشة يرويه زهير بن محمد وقال البخاري‏:‏ يروى مناكير وقال أبو حاتم الرازى‏:‏ هذا حديث منكر وسأل الأثرم‏,‏ أحمد عن هذا الحديث‏؟‏ فقال‏:‏ كان يقول هشام‏:‏ كان يسلم تسليمة يسمعنا قيل له‏:‏ إنهم مختلفون فيه عن هشام وبعضهم يقول‏:‏ تسليما وبعضهم يقول‏:‏ تسليمة قال‏:‏ هذا أجود فقد بين أحمد أن معنى الحديث يرجع إلى أنه يسمعهم التسليمة الواحدة ومن روى‏:‏ تسليما فلا حجة لهم فيه‏,‏ فإنه يقع على الواحدة والثنتين على أن أحاديثنا تتضمن زيادة على أحاديثهم والزيادة من الثقة مقبولة ويجوز أن النبي - صلى الله عليه وسلم- فعل الأمرين ليبين الجائز والمسنون ولأن الصلاة عبادة ذات إحرام وإحلال فجاز أن يكون لها تحللان كالحج‏.‏

فصل

والواجب تسليمة واحدة ، والثانية سنة . قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم ، أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة ، جائزة ، وقال القاضي فيه رواية أخرى ، أن الثانية واجبة . وقال : هي أصح ؛ لحديث جابر بن سمرة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويداوم عليها ، ولأنها عبادة لها تحللان ، فكانا واجبين ، كتحللي الحج ، ولأنها إحدى التسليمتين ، فكانت واجبة كالأولى . والصحيح ما ذكرناه . وليس نص أحمد بصريح بوجوب التسليمتين ، إنما قال : التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه . ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية والاستحباب ، دون الإيجاب كما ذهب إلى ذلك غيره ، وقد دل عليه قوله في رواية مهنا : أعجب إلي التسليمتان . ولأن عائشة ، وسلمة بن الأكوع ، وسهل بن سعد . قد رووا : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة ) وكان المهاجرون يسلمون تسليمة واحدة ففيما ذكرناه جمع بين الأخبار وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين ، والواجب واحدة ، وقد دل على صحة هذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فلا معدل عنه ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على المشروعية والسنة ؛ فإن أكثر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة مسنونة غير واجبة ، فلا يمنع حمل فعله لهذه التسليمة على السنة عند قيام الدليل عليها ، والله أعلم . ولأن التسليمة الواحدة يخرج بها من الصلاة ، فلم يجب عليه شيء آخر فيها ، ولأن هذه صلاة ، فتجزئه فيها تسليمة واحدة ، ولأن هذه واحدة كصلاة الجنازة والنافلة . وأما قوله في حديث جابر : (إنما يكفي أحدكم) فإنه يعني في إصابة السنة ؛ بدليل أنه قال : أن (يضع يده على فخذه ، ثم يسلم على أخيه عن يمينه وشماله) وكل هذا غير واجب . وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الصلاة المفروضة ، أما صلاة الجنازة ، والنافلة ، وسجود التلاوة ، فلا خوف في أنه يخرج منها بتسليمة واحدة . قال القاضي : هذا - رواية واحدة - نص عليه أحمد في صلاة الجنازة وسجود التلاوة ؛ ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلموا في صلاة الجنازة إلا تسليمة واحدة . والله أعلم .

فصل

والسنة أن يقول‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يسلم كذلك‏,‏ في رواية ابن مسعود وجابر بن سمرة وغيرهما وقد روى وائل بن حجر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فكان يسلم عن يمينه‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏)‏ رواه أبو داود فإن قال ذلك فحسن والأول أحسن لأن رواته أكثر‏,‏ وطرقه أصح فإن قال‏:‏ السلام عليكم ولم يزد فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه قال القاضي‏:‏ ونص عليه أحمد في صلاة الجنازة وهو مذهب الشافعي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ وتحليلها التسليم والتسليم يحصل بهذا القول وقد روي عن سعد قال‏:‏ ‏(‏كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وشماله حتى أرى بياض خده‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله‏,‏ السلام عليكم ورحمة الله‏)‏ رواه أبو داود وروى عبد الله بن زيد نحوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعن على رضي الله عنه ‏(‏أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره‏:‏ السلام عليكم‏,‏ السلام عليكم‏)‏ رواهما سعيد ولأن ذكر الرحمة تكرير للثناء فلم يجب كقوله‏:‏ وبركاته‏,‏ وقال ابن عقيل‏:‏ الأصح أنه لا يجزئه لأن الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله ولأنه سلام في الصلاة ورد مقرونا بالرحمة فلم يجز بدونها كالتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم- في التشهد‏.‏

فصل

فإن نكس السلام فقال‏:‏ عليكم السلام لم يجزه قال القاضي‏:‏ فيه وجه آخر‏,‏ أنه يجزئ وهو قول الشافعي لأن المقصود يحصل وليس هو بقرآن يعتبر فيه النظم ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قاله مرتبا وأمر به كذلك وقال لأبي تميمة‏:‏ ‏(‏لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى‏)‏ رواه أحمد‏,‏ في المسند ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة فلم يجز منكسا‏,‏ كالتكبير‏.

فصل

فإن قال : سلام عليكم : منكرا منونا ، ففيه وجهان : أحدهما ، يجزئه . وهو مذهب الشافعي ؛ لأن التنوين قام مقام الألف واللام ، ولأن أكثر ما ورد في القرآن من السلام بغير ألف ولام كقوله تعالى : (سلام عليكم بما صبرتم ). وقوله : (يقولون سلام عليكم ). وقوله : (وقال لهم خزنتها سلام عليكم ). ولأنا أجزنا التشهد بتشهد ابن عباس ، وأبي موسى ، وفيهما : سلام عليك . بغير ألف ولام ، والتسليمتان واحد . والآخر : لا يجزئه ؛ لأنه يغير صيغة السلام الوارد ، ويخل بحرف يقتضي الاستغراق ، فيتغير المعنى ، فلم يجزئ ، كما لو أثبت اللام في التكبير . وقال أبو الحسن الآمدي : لا فرق بين أن ينون التسليم أو لا ينونه ؛ لأن حذف التنوين لا يخل بالمعنى ؛ بدليل ما لو وقف عليه . ‏

فصل

ويسن أن يلتفت عن يمينه في التسليمة الأولى وعن يساره في الثانية كما جاءت السنة‏,‏ في حديث ابن مسعود ‏(‏رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره‏)‏ ويكون التفاته في الثانية أوفى لما روى يحيى بن محمد بن صاعد بإسناده عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه كان يسلم عن يمينه‏,‏ حتى يرى بياض خده الأيمن وإذا سلم عن يساره يرى بياض خده الأيمن والأيسر‏)‏ ورواه أبو بكر بإسناده عن ابن مسعود‏,‏ عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال ابن عقيل‏:‏ يبتدئ بقوله‏:‏ السلام عليكم إلى القبلة ثم يلتفت قائلا‏:‏ ورحمة الله عن يمينه ويساره في قوله‏:‏ ورحمة الله لقول عائشة‏:‏ ‏(‏كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يسلم تلقاء وجهه‏)‏ معناه ابتداء السلام‏,‏ و ‏"‏ رحمة الله ‏"‏ يكون في حال التفاته‏.‏

فصل

وقد‏:‏ روى عن أحمد -رحمه الله- أنه يجهر بالتسليمة الأولى وتكون الثانية أخفى من الأولى‏,‏ يعنى بذلك في حق الإمام قال صالح بن على‏:‏ سئل أحمد‏:‏ أي التسليمتين أرفع‏؟‏ قال‏:‏ الأولى وفي لفظ قال‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ التسليمة الأولى أرفع من الأخرى قال القاضي أبو الحسين‏:‏ واختار هذه الرواية أبو بكر الخلال وأبو حفص العكبرى وحمل أحمد حديث عائشة أنه كان يسلم تسليمة واحدة على أنه كان يجهر بواحدة‏,‏ فتسمع منه والمعنى في ذلك أن الجهر في غير القراءة إنما شرع للإعلام بالانتقال من ركن إلى غيره وقد حصل العلم بالجهر بالتسليمة الأولى‏,‏ فلا يشرع الجهر بغيرها وكان ابن حامد يخفى الأولى ويجهر بالثانية لئلا يسبقه المأمومون بالسلام‏.‏

فصل

ويستحب حذف السلام وهو ألا يمد بطوله‏,‏ وقد روى أبو داود والترمذي‏,‏ بإسنادهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏حذف السلام سنة‏)‏ قال ابن المبارك‏:‏ معناه أن لا يمده مدا قال أحمد‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وهذا الذي يستحبه أهل العلم قال إبراهيم النخعي‏:‏ التكبير جزم والسلام جزم وقد روى أن معنى هذا الحديث إخفاء التسليمة الثانية والصحيح الأول لأن الحذف إسقاط بعض الشيء‏,‏ والجزم قطع له فيتفق معناهما والإخفاء بخلافه‏,‏ ويختص ببعض السلام دون جملته قال أحمد بن الأثرم سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول‏:‏ حذف السلام سنة‏,‏ وهو أن لا يطول به صوته وطول أبو عبد الله صوته‏.‏

فصل

وينوي بسلامه الخروج من الصلاة فإن لم ينو فقال ابن حامد تبطل صلاته وهو ظاهر نص الشافعي لأنه نطق في أحد طرفي الصلاة فاعتبرت له النية كالتكبير والمنصوص عن أحمد - -رحمه الله- - أنه لا تبطل صلاته وهو الصحيح لأن نية الصلاة قد شملت جميع الصلاة والسلام من جملتها‏,‏ ولأنه لو وجبت النية في السلام لوجب تعيينها كتكبيرة الإحرام ولأنها عبادة‏,‏ فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات وقياس الطرف الأخير على الطرف الأول غير صحيح فإن النية اعتبرت في الطرف الأول‏,‏ لينسحب حكمها على بقية الأجزاء بخلاف الأخير ولذلك فرق الطرفان في سائر العبادات قال بعض أصحابنا‏:‏ ينوي بالتسليمتين معا الخروج من الصلاة فإن نوى مع ذلك الرد على الملكين‏,‏ وعلى من خلفه إن كان إماما أو على الإمام ومن معه إن كان مأموما فلا بأس نص عليه أحمد‏,‏ فقال‏:‏ يسلم في الصلاة وينوي بسلامه الرد على الإمام لما روى مسلم عن جابر بن سمرة‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- قلنا‏:‏ السلام عليكم السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده‏)‏ وفي لفظ ‏(‏إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه‏,‏ ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله‏)‏ وروى أبو داود قال‏:‏ ‏(‏أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم- أن نرد على الإمام وأن يسلم بعضنا على بعض‏)‏ وهذا يدل على أنه يسن أن ينوي بسلامه على من معه من المصلين وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وقال أبو حفص بن المسلم - من أصحابنا -‏:‏ ينوي بالأولى الخروج من الصلاة وينوي بالثانية السلام على الحفظة والمأمومين إن كان إماما‏,‏ والرد على الإمام والحفظة إن كان مأموما وقال ابن حامد‏:‏ إن نوى في السلام الرد على الملائكة أو غيرهم من الناس مع نية الخروج من الصلاة فهل تبطل صلاته‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما تبطل لأنه نوى السلام على آدمي‏,‏ أشبه ما لو سلم على من لا يصلي معه والصحيح ما ذكرناه فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية يعقوب‏:‏ يسلم للصلاة وينوي في سلامه الرد على الإمام رواها أبو بكر الخلال في كتابه وقال في رواية إسحاق بن هانئ‏:‏ إذا نوى بتسليمه الرد على الحفظة أجزأه وقال‏:‏ أيضا‏:‏ ينوي بسلامه الخروج من الصلاة قيل له‏:‏ فإن نوى الملكين‏,‏ ومن خلفه‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس والخروج من الصلاة نختار وقد ذكرنا من الحديث ما يدل على مشروعية ذلك والله أعلم‏.‏

فصل

ويستحب ذكر الله تعالى‏,‏ والدعاء عقيب صلاته ويستحب من ذلك ما ورد به الأثر مثل ما روى المغيرة‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول في دبر كل صلاة مكتوبة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد‏,‏ وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت‏,‏ ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏ متفق عليه وقال ثوبان‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال‏:‏ اللهم أنت السلام ومنك السلام‏,‏ تباركت يا ذا الجلال والإكرام‏)‏ قال الأوزاعي‏:‏ يقول‏:‏ أستغفر الله أستغفر الله رواه مسلم وقال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏جاء الفقراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالوا‏:‏ ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم‏,‏ يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموال‏,‏ يحجون بها ويعتمرون ويتصدقون‏؟‏ فقال‏:‏ ألا أحدثكم بحديث إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله‏؟‏ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين فاختلفنا بيننا فقال بعضنا‏:‏ نسبح ثلاثا وثلاثين‏,‏ ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين فرجعت إليه فقال‏:‏ تقول‏:‏ سبحان الله والحمد لله والله أكبر‏,‏ حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون‏)‏ قال أحمد في رواية أبي داود‏:‏ يقول هكذا ولا يقطعه‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإن عدل إلى غيره جاز لأنه قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- غيره رواه البخاري وروى مسلم والنسائي عن عبد الله بن الزبير‏,‏ أنه حدث على المنبر قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك‏,‏ وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم‏,‏ لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة والفضل والثناء الحسن الجميل‏,‏ لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يهلل بهن في دبر الصلاة‏)‏ وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات‏,‏ ويقول‏:‏ ‏(‏إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من البخل وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر‏,‏ وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر‏)‏ من الصحاح قال ابن عباس‏:‏ إن ‏(‏رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال ابن عباس‏:‏ كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته‏)‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏

فصل

إذا كان مع الإمام رجال ونساء‏,‏ فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن قد انصرفن ويقمن هن عقيب تسليمه قالت أم سلمة‏:‏ ‏(‏إن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كن إذا سلم من المكتوبة قمن وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومن صلى من الرجال ما شاء الله‏,‏ فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قام الرجال‏)‏ قال الزهري فنرى والله أعلم لكى يبعد من ينصرف من النساء رواه البخاري ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء‏,‏ فإن لم يكن معه نساء فلا يستحب له إطالة الجلوس لما روت عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول‏:‏ اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام‏)‏ رواه ابن ماجه وعن البراء‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏رمقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء متفق عليه‏)‏ إلا أن البخاري قال‏:‏ ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء فإن لم يقم فالمستحب أن ينحرف عن قبلته لا يلبث مستقبل القبلة لأنه ربما أفضى به إلى الشك‏,‏ هل فرغ من صلاته أو لا‏؟‏ وقد روى البخاري بإسناده عن سمرة‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه‏)‏ وعن يزيد بن الأسود قال‏:‏ ‏(‏صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الفجر فلما سلم انحرف‏)‏ وعن علي‏,‏ أنه صلى بقوم العصر ثم أسند ظهره إلى القبلة فاستقبل القوم رواهما الأثرم وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لأن يجلس الرجل على رضفة خير له من أن يجلس مستقبل القبلة حين يسلم ولا ينحرف وقال إبراهيم‏:‏ إذا سلم الإمام ثم استقبل القبلة فاحصبوه قال الأثرم‏:‏ رأيت أبا عبد الله إذا سلم يلتفت ويتربع وقال أبو داود‏:‏ رأيته إذا كان إماما فسلم انحرف عن يمينه وروى مسلم‏,‏ وأبو داود في السنن عن جابر بن سمرة قال‏:‏ ‏(‏كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر يتربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس‏)‏ وعن سعد‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام‏)‏ رواهما مسلم وسئل أحمد عن تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏كان لا يجلس بعد التسليم إلا قدر ما يقول‏:‏ اللهم أنت السلام‏)‏ يعنى في مقعده حتى ينحرف‏,‏ قال‏:‏ لا أدرى وروى الأثرم هذه الأحاديث التي ذكرناها ويستحب للمأمومين أن لا يثبوا قبل الإمام لئلا يذكر سهوا فيسجد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إني إمامكم فلا تبادرونى بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف‏)‏ رواه مسلم‏,‏ والنسائي ولفظ مسلم‏:‏ فلا تسبقونى فإن خالف الإمام السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة أو انحرف فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه‏.‏

فصل

وينصرف حيث شاء عن يمين وشمال لقول ابن مسعود‏:‏ لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته‏,‏ يرى حقا عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه ‏(‏لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما ينصرف عن شماله‏)‏ رواه مسلم وعن قبيصة بن هلب عن أبيه ‏(‏أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم- فكان ينصرف عن شقيه‏)‏ رواهما أبو داود وابن ماجه‏.‏

فصل

قال أحمد لا يتطوع الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة نص عليه أحمد وقال‏:‏ كذا قال على بن أبي طالب‏,‏ رضي الله عنه قال أحمد ومن صلى وراء الإمام فلا بأس أن يتطوع مكانه فعل ذلك ابن عمر وبهذا قال إسحاق وروى أبو بكر حديث على بإسناده وبإسناده عن المغيرة بن شعبة‏:‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي فيه بالناس ‏)‏‏.‏

مسألة

قال والرجل والمرأة في ذلك سواء إلا أن المرأة تجمع نفسها في الركوع والسجود وتجلس متربعة أو تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها الأصل أن يثبت في حق المرأة من أحكام الصلاة ما يثبت للرجال لأن الخطاب يشملها‏,‏ غير أنها خالفته في ترك التجافى لأنها عورة فاستحب لها جمع نفسها‏,‏ ليكون أستر لها فإنه لا يؤمن أن يبدو منها شيء حال التجافى وكذلك في الافتراش قال أحمد‏:‏ والسدل أعجب إلى واختاره الخلال قال علي‏,‏ كرم الله وجهه‏:‏ إذا صلت المرأة فلتحتفز ولتضم فخذيها وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة‏.‏

مسألة

قال‏:‏ والمأموم إذا سمع قراءة الإمام فلا يقرأ بالحمد ولا بغيرها‏,‏ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‏}‏ ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏؟‏ قال‏:‏ فانتهى الناس أن يقرءوا فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم-‏)‏ وجملة ذلك أن المأموم إذا كان يسمع قراءة الإمام لم تجب عليه القراءة‏,‏ ولا تستحب عند إمامنا والزهري والثوري‏,‏ ومالك وابن عيينة وابن المبارك‏,‏ وإسحاق وأصحاب الرأي وهذا أحد قولي الشافعي ونحوه عن سعيد بن المسيب‏,‏ وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن جبير‏,‏ وجماعة من السلف والقول الآخر للشافعي قال‏:‏ يقرأ فيما جهر فيه الإمام ونحوه عن الليث والأوزاعي وابن عون ومكحول‏,‏ وأبي ثور لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏ متفق عليه وعن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏(‏كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في صلاة الفجر‏,‏ فقرأ فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال‏:‏ لعلكم تقرءون خلف إمامكم‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم يا رسول الله‏,‏ قال‏:‏ فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها‏)‏ رواه الأثرم وأبو داود وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج‏,‏ فهي خداج فهي خداج غير تمام‏)‏ قال الراوى‏:‏ يا أبا هريرة‏,‏ إني أكون أحيانا وراء الإمام‏؟‏ قال‏:‏ فغمز ذراعى وقال‏:‏ اقرأ بها في نفسك يا فارسى رواه مسلم وأبو داود‏,‏ ولأنها ركن في الصلاة فلم تسقط عن المأموم كسائر أركانها ولأن من لزمه القيام لزمته القراءة مع القدرة‏,‏ كالإمام والمنفرد ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‏}‏ وقال أحمد‏:‏ فالناس على أن هذا في الصلاة قال سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم‏,‏ ومحمد بن كعب والزهري‏:‏ إنها نزلت في شأن الصلاة وقال زيد بن أسلم وأبو العالية‏:‏ كانوا يقرءون خلف الإمام‏,‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‏}‏ وقال أحمد في رواية أبي داود‏:‏ أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة ولأنه عام فيتناول بعمومه الصلاة وروى أبو هريرة‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏ رواه مسلم والحديث الذي رواه الخرقي رواه مالك‏,‏ عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثى عن أبي هريرة ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- انصرف من صلاة فقال‏:‏ هل قرأ معي أحد منكم‏؟‏ فقال رجل‏:‏ نعم يا رسول الله قال‏:‏ ما لي أنازع القرآن قال‏:‏ فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما جهر فيه من الصلوات‏,‏ حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏)‏ أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود‏,‏ والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن ورواه الدارقطني بلفظ آخر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة فلما قضاها قال‏:‏ هل قرأ أحد منكم معي بشيء من القرآن‏؟‏ فقال رجل من القوم‏:‏ أنا يا رسول الله فقال‏:‏ إني أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏؟‏ إذا أسررت بقراءتى فاقرءوا‏,‏ وإذا جهرت بقراءتى فلا يقرأن معي أحد‏)‏ ولأنه إجماع فإنه إجماع قال أحمد ما سمعنا أحدا من أهل الإسلام يقول‏:‏ إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ وقال‏:‏ هذا النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون‏,‏ وهذا مالك في أهل الحجاز وهذا الثوري في أهل العراق وهذا الأوزاعي‏,‏ في أهل الشام وهذا الليث في أهل مصر‏,‏ ما قالوا لرجل صلى خلف الإمام وقرأ إمامه ولم يقرأ هو‏:‏ صلاته باطلة ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق‏,‏ فلا تجب على غيره كقراءة السورة يحققه أنها لو وجبت على غير المسبوق لوجبت على المسبوق‏,‏ كسائر أركان الصلاة فأما حديث عبادة الصحيح فهو محمول على غير المأموم‏,‏ وكذلك حديث أبي هريرة وقد جاء مصرحا به رواه الخلال بإسناده عن جابر‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج إلا أن تكون وراء الإمام‏)‏ وقد روى أيضا موقوفا عن جابر وقول أبي هريرة‏:‏ اقرأ بها في نفسك من كلامه وقد خالفه جابر‏,‏ وابن الزبير وغيرهما ثم يحتمل أنه أراد‏:‏ اقرأ بها في سكتات الإمام‏,‏ أو في حال إسراره فإنه يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إذا قرأ الإمام فأنصتوا‏)‏ والحديث الآخر وحديث عبادة الآخر لم يروه غير ابن إسحاق كذلك قاله الإمام أحمد‏,‏ وقد رواه أبو داود عن مكحول عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري وهو أدنى حالا من ابن إسحاق فإنه غير معروف من أهل الحديث وقياسهم يبطل بالمسبوق‏.‏

فصل

قال أبو داود‏:‏ قيل لأحمد‏,‏ -رحمه الله-‏:‏ فإنه - يعنى المأموم - قرأ بفاتحة الكتاب ثم سمع قراءة الإمام‏؟‏ قال‏:‏ يقطع إذا سمع قراءة الإمام وينصت للقراءة وإنما قال ذلك اتباعا لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏وإذا قرأ فأنصتوا ‏)‏‏.‏

فصل

وهل يستفتح المأموم ويستعيذ ؟ ينظر إن كان في حقه قراءة مسنونة ، وهو في الصلوات التي يسر فيها الإمام ، أو التي فيها سكتات يمكن فيها القراءة ، استفتح المأموم واستعاذ ، وإن لم يسكت أصلا ، فلا يستفتح ولا يستعيذ ، وإن سكت قدرا يتسع للافتتاح فحسب ، استفتح ولم يستعذ . قال ابن منصور : قلت لأحمد : سئل سفيان أيستعيذ الإنسان خلف الإمام ؟ قال : إنما يستعيذ من يقرأ . قال أحمد : صدق . وقال أحمد أيضا : إن كان ممن يقرأ خلف الإمام قال الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } . وذكر بعض أصحابنا أنه فيه روايات أخرى ، أنه يستفتح ويستعيذ في حال جهر الإمام ؛ لأن سماعه لقراءة الإمام قام مقام قراءته ، بخلاف الاستفتاح والاستعاذة . والصحيح ما ذكرناه